في منتصف نوڤمبر 2022، رصدت عدسات TYC الأرجنتينية هتافات عنصرية أطلقتها مجموعة من مشجعي التانجو تجاه نجوم منتخب فرنسا. كانت تلك الحادثة أثناء دور المجموعات، أي قبل احتدام أي منافسة بين المنتخبين على اللقب. وقتئذٍ، هتفت الجماهير المشحونة: «يلعبون لفرنسا، لكنهم جميعًا من أنجولا».
بعد هذه الحادثة بشهر تقريبًا، نشرت واشنطن بوست الأمريكية تقريبًا بعنوان: «لماذا لا يوجد لاعبين سود في منتخب الأرجنتين؟».
للوهلة الأولى، قد تعتقد أن هذا السؤال منطقي؛ فجميع منتخبات أمريكا الجنوبية تضم لاعبين سود ضمن قوائمها، على عكس منتخب الأرجنتين الذي توِّج بكأس العالم في قطر، الذي لا يُمكن الإشارة إلى لاعب أسود بين صفوفه.
هل يعني ذلك أن الأرجنتين عُنصرية تجاه أصحاب البشرة السمراء ومن ثم انعكست هذه العنصرية على حقوقهم في تمثيل المنتخب الوطني؟ في الواقع، تبدو الإجابة على هذا السؤال أعمق مما نتصور.
في كتابه «The Afro-Argentines Of Buenos Aires» الصادر عام 1980، يخبرنا المؤرخ الأمريكي «چورچ ريد أندروز» أنه تم شحن نحو 200 ألف أسير إفريقي صوب شواطئ ريو دي لا بلاتا الأرجنتينية خلال فترة الاستعمار الإسباني للأرجنتين بالقرن الـسابع عشر.
هذا الرقم، طبقًا للأوروجواياني أليكس بوروكي، الباحث الأكاديمي في جامعة كاليفورنيا إيرڤين يُمثِّل نصف عدد الأفارقة الذين تم شحنهم للولايات المتحدة الأمريكية. السؤال إذن: أين ذهب هؤلاء السود الأفارقة؟
حسب المعهد الوطني الأرجنتيني للإحصاء والإعداد (INDEC)، في عام 2022، عرَّف نحو 303 ألف مواطن أرجنتيني (0.7%) أنفسهم على أنهم أصحاب أصول إفريقية، بعدما كانت وصلت نسبتهم في 1816، أي بعد الاستقلال عن إسبانيا مباشرة إلى 30% من إجمالي عدد سكان الأرجنتين وفقًا لمكتب الإحصاء الأرجنتيني.
في كتابها «الاختباء على مرأى من الجميع: النساء السود والقانون وصنع جمهورية أرجنتينية بيضاء»، تشرح البروفيسور إريكا دينيز إدواردز النظريات الأكثر شيوعًا حول اختفاء السكان الأفارقة للأرجنتين، والتي تأرجحت ما بين استخدام الأفارقة في الصفوف الأولى من الجيوش التي تقاتلت ضد الجيش الإسباني أثناء حروب الاستقلال بالقرن الـ19. أو تفشي الأوبئة مثل حمى الصفراء التي لم ينجُ سكان بوينس أيرس السود الفقراء من فتكها. وحتى وإن كانت هذه النظريات حقيقية وليست مجرَّد أساطير، قد لا تبدو أسبابًا منطقية لاختفاء هذا العدد الضخم من البشر، صحيح؟
بعد عقدين من الاستقلال عن الحكم الملكي الإسباني، قامت مجموعة من المفكرين والسياسيين المعروفين باسم جيل 1837 بصياغة أسطورة «الأرجنتين البيضاء» الأوروبية عندما بدأوا في تأطير أول دستور للجمهورية في عام 1853 كسياسة متعمدة لتوحيد الأمة الأرجنتينية.
نَص الدستور على تعزيز الهجرة الأوروبية للأرجنتين، لأنهم -أصحاب الأصول الأوروبية- أسياد أمريكا، بينما الأفارقة والسكان الأصليين ليسوا أكثر من برابرة. عند هذه النقطة من التاريخ تحديدًا، بدأت عملية تبييض الأرجنتين، المدفوعة بهوس التحضُّر الأوروبي، ووصف غير الأوروبيين بأنهم يقبعون أسفل هرم الحضارة البشرية.
في ذلك الوقت، وبمساعدة نخبة المفكرين الأرجنتينيين، اختلقت صورة جديدة لهذا البلد بفضل رحلات الهجرات الجماعية من إسبانيا وإيطاليا صوب الأرجنتين، والتي وصلت لنقل قرابة سبعة مليون شخص خلال الفترة ما بين 1850 و1950.
أمام هذه العملية الممنهجة لإقصاء الآخر، أو على أقل تقدير التحقير من شأنه، لجأت السيدات الأفارقة أو من السكان الأصليين على سبيل المثال، للزواج من المهاجرين الأوروبيين، لفك الارتباط مع أصولهم العرقية، وخلق رابط جديد مع الهوية الوطنية الأرجنتينية الجديدة، التي تضمن حياة وظروف اجتماعية واقتصادية أفضل.
لم يختفِ الأرجنتينيون -غير البيض- بذلت الدولة جهدًا منسقًا لإعادة تصور بلد بدون سود، بدون هنود، أو بالأحرى، دون أي شخص لا يتناسب مع النسب الأوروبي. وبعد جيل أو اثنين من الاختلاط، لا يتذكر أي شخص أصوله.
إريكا إدواردز، أستاذة التاريخ بجامعة تكساس
نحن الآن أمام دولة، يُصرِّح رئيسها السابق ماوريسيو ماكري في 2018 قائلًا: «ننحدر جميعًا من أصول أوروبية». بينما يتفاخر الرئيس ألبرتو فرنانديز في 2021 بعنصريته مصرحًا: «تعود أصول المكسيكيين للهنود، جاء البرازيليون من الغابات، لكننا نحن الأرجنتينيين أتينا من السفن، وكانت هذه السفن أوروبية».
في الولايات المتحدة الأمريكية، نقطة دم سوداء تجعلك أسودًا، بينما في الأرجنتين نقطة دم بيضاء تجعلك أبيضًا بالكامل، لا يعترف الوعي الجمعي الأرجنتيني بوجود السود، بالتالي لا توجد عنصرية.
باتريشيا جوميز، المحاضرة بجامعة بيونس أيرس
يحكي الكاتب البريطاني جوناثان ويلسون في كتابه «Angels With Dirty Faces: The Footballing History Of Argentina» عملية خلق الهوية القومية لكرة القدم الأرجنتينية عند تأسيس الاتحاد الأرجنتيني لكرة القدم (AFA) منذ تأسيسه عام 1903، والتي كانت تدور حول مصطلح «criollisation» نسبةً لـ«شعوب الكريول» وهم طبقة النخبة ذات الأصول الأوروبية التي حكمت الأرجنتين بعد الاستقلال عن المملكة الإسبانية.
حسب ويلسون، في 1916 بعد فوز فرق لا علاقة لها بالمجتمع البريطاني ببطولات الأرجنتين الوطنية في كرة القدم، أصبحت لكرة القدم الأرجنتينية هوية وطنية صارمة، لا تسعى لدمج الآخر، وتهمِّش لاعبي كرة القدم المنحدرين من الشعوب الأصلية أو أصحاب الأصول الإفريقية.
بطبيعة الحال، يسهل الطعن في هذه النظرية، فعبر بحث بسيط، نجد أن تاريخ كرة القدم الأرجنتينية لم يخلُ من السود والسكان الأصليين. ولعل أبرزهم الثنائي الذي حمل شارة قيادة المنتخب الأرجنتيني: دييجو أرماندو مارادونا وخوان سيباستيان ڤيرون.
ينحدر مارادونا من عائلة لها أصول غوارانية/ إيطالية مختلطة، في حين تبدو ملامح سيبا برازيلية أكثر من كونها أرجنتينية، بمعنى أنّه يشبه كافو أكثر من بابلو أيمار، ومع ذلك، يحظى الثنائي بتقدير الأرجنتينيين، فكيف يحدث ذلك داخل مجتمع يتتبع ويتفاخر بنقائه العرقي وجذوره الأوروبية؟
في 2004، نشرت ورقة بحثية في قسم الأدب بجامعة ديوك بكارولاينا الشمالية بعنوان: «Fiaca and Veron-ismo: Race and Silence in Argentine Football»، حللت هذه الورقة أبعاد العنصرية الأرجنتينية، التي تختلف تمامًا عن العنصرية بالشكل المتعارف عليه.
في مارس 2024، تعرَّض ماركوس أكونيا، لاعب منتخب الأرجنتين ونادي أشبيلية الإسباني لهتافات عنصرية أثناء مباراة لفريقه ضد خيتافي بالدوري الإسباني، وكانت الهتافات عبارة عن ترديد مجموعة من جماهير خيتافي لأصوات القردة. يبدو السبب مفهوم، وإن لم يكن مبررًا بالطبع؛ ملامح أكونيا لا تتوافق مع الملامح التي يستسيغها أي عنصري إسباني. لكن الغريب أن نفس اللاعب لم يتعرَّض لمثل هذه الحادثة أثناء لعبه في منتخب بلاده.
يُمثِّل وجود أمثال مارادونا، ڤيرون وحتى أكونيا أزمة للأرجنتين، لأنهم يشبهون الآخر، الذي لا يبدو متحضرًا كفاية. هنا بالتحديد يظهر مُصطلح «Veron-ismo» ليحل هذا اللغز، حيث ترفُض الأرجنتين رؤية الاختلاف الشكلي بين رعاياها، حتى وإن أشارت إلى نفس الاختلاف بشكل عنصري عند التعامل مع الآخر.
هنا، ومن ناحية فلسفية، استطاعت النخب الحاكمة على مدار عقود في فك ارتباط السكان مع فظائع الماضي، وخلق حالة نسيان وطنية جماعية مؤقتة للخطاب العنصري الذي قامت عليه الدولة عندما يطول هذا الخطاب بأحد رعاياها.
هكذا، يمكننا أن نفهم رواية منتخب الأرجنتين «الأبيض»، التي قد لا تكون حقيقية من الأساس، فربما تعود أصول بعض هؤلاء اللاعبين لأصول إفريقية أو انحدروا من سلالات السكان الأصليين، لكنَّهم، كما الشعب الأرجنتيني، تعلَّموا عبر التاريخ فضيلة النسيان.